انه العام .......وقد تغير العالم كثيرا أو لم يتغير اﻻمر منوط بعين الرائي ، فبينما يستقبل البعض كل جديد بأمل و انبهار ، يراه البعض مجرد طور أو مرحلة فى الطريق الى الزوال ثم الظهور فى زيارة أخري.
المشهد فى مدينة اﻻقبية مظلم لكنه ساحر بعيد عن اﻻفق ، آمن ليس ثمة شواطئ و ﻻ سحب ﻻنجوم أو نيازك .
نحن نعيش أزمة موارد ، خاصة الماء ؛ لذلك نعيد تنقية مياه الصرف ، ﻻ تتعجب نعيد تنقيتها انها تستخدم عدة مرات حتى تصبح غير صالحة للتنقية . إنها أزمة مستنصرية حقا ، ﻻ تتعجب من مصطلحاتى التاريخية فأنا فى أزمة أخرى ، مريض بالحنين إلى الماضى ،كم أخرنا التشبث بالماضي ذلك التراث الذى لفظه الجميع ليتحرروا و مازال أمثالى يحاربون طواحين الهواء .
هه.. حبذا لو وجد هواء يحرك الطواحين ، فى مدينة اﻻقبية الهواء هنا ثقيل سميك أما الرياح الخفيفة فقريبة بعيدة يصعب الوصول اليها ويستحيل اﻹفادة منها إﻻ إذا كنت فى عمل ، هذا للساعون الجادون أما المتخاذلون مثلي فيطلبون مئونتهم من المخلفات التى تأتى من فوق أو ينتظرون وجباتهم بعد نهاية يوم من العمل في المجارير إنه العمل اﻷكثر انتشارا هنا ويتم توظيف جميع سكان اﻷقبية تقريبا في نفس الوظيفة، إن العمالة هنا تفوق الحاجة بكثير لكن الغرباء ﻻيرغبون في تسريح هؤﻻء إنهم بطالة مقنعة يتحركون ببطء بأجسادهم الهزيلة وبطونهم المنتفخة .
لقد اقترب (ﻻمى)* هذا المتحذلق الذي خرب عقلي ، ما حدثته مرة حتى أنسانى الحق و خلط التعاليم التى تعلمتها وحفظتها لن أجعل أيا من كلامه يسكن رأسي يقرأ أوراق قديمة وهل هناك من يقرأ اﻷوراق في عصرنا هذا ، ليس ثمة إنسان يعرف رموز تلك اللغة البائدة_أقصد المكتوبة_ يكفينا اﻵن أن نتواصل بالصوت بل صار من الممكن ايصال اﻷفكار للدماغ مباشرة يستطيع الغرباء فعل هذا و أكثر.
ﻻمى: صديقي( كنان)* .
كنان: هلا صنعت مجرفة يا( ﻻمي).
ﻻمي:ﻻ أستطيع.
كنان:إذن اصلح المحبس.
ﻻمى:لست بارعا في ذلك.
كنان:و فيم تبرع إذن؟ في اﻻبتعاد عن العمل والمفاخرة ببطنك المسطح.
ﻻمي:ﻻ آخذ إﻻ حقى من الوجبات ، ﻻ اتسلم الطيب و ﻻ السماعات الحسية لذا فأنا أعمل على قدر أجرتي.
كنان:ﻻ أدري كيف تنام دون السماعات ودون الطيب كيف تتحمل الرائحة.
ﻻمى:كلاهما سواء.
كنان:ماذا؟!!
ﻻمى:رائحة الهواء هنا وطيب الغرباء يؤذيان البطون أنا أتنفس هواء جافا ليس لزجا رطبا كهواء اﻷقبية .
كنان: ومن أين لك بالهواء الجاف هل فى اﻷقبية هواء جافا؟!
لامي: من خارج اﻷقبية .
كنان: اصمت أتريد أن تودي بنا والله لتضيعنك ورقاتك هذى، تحرك و لتعمل نافعا فأحد الغرباء قادم ، أم أنك قرأت في أوراقك عنه أمر نجهله.
(لامي) بينما ينظر ﻷحد الغرباء :إنهم قادمون من بعيد لم يراهم قط كاتبو الأوراق.
كنان : لو رؤوهم لتركوا الرمز وللحقوا بنا، أنت تدعي أنهم قديما كانوا صلاب اﻷجسام دقيقي القد كما لو كنت تصف الغرباء والله ما تلك إلا أكاذيب انتحلها أحمق بل لعلهم دون أذناب أيضا.
(ﻻمي) يتحرك بعيدا عن موقع الغريب محدثا نفسه:هل كنان على صواب؟ أشعر بتغير في حركة امعائي وبشرتى إنها تتساقط حتى ذنبي أشعر به ينكمش .
ماذا لو لو تسممت؟ سيعرف الجميع سري سيتسائل الجميع كيف وصلت إلى الخارج وتنشقت الهواء مباشرة ؟ اﻵن برح الخفاء وتبين غبائي لقد صدق الجميع وكذب تفكيري لماذا أثق بعقلي؟ الذي لطالما خذلني ، ألم أتعلم الدرس ؟ إن تذكر ما حدث يعتصر قلبي ،ﻻ سأطرد تلك الذكرى المؤلمة من خاطري .
كيف أقنعت نفسي بتنفسه و أنا أعلم كم تغير الهواء؟ لقد استبدلوا النتروجين بنظير يناسب أجسامهم ،هل صدق المذيع ؟ لقد قال إن التعرض للهواء الطلق يسبب تشوهات .
الكل يعلم هذا و ﻻ يفكر حتى بالتعرض له واﻵن أجني ما قدمته يداي.
ولكن ربما..ربما أصبح أشبه بالغرباء بأجسادهم الرشيقة وحياتهم الطويلة لعل نساء المدينة يعجبن بي حتى الحسناوات اللاتي يستولدن و ربما أستولد إحداهن كخالي (ساري) .
ماذا أقول؟ أي وهم أرسمه و كم خيال أتعلق به إنه يحذر من تشوهات ـ يرفع رأسه و ينظر للمذيع ـ وأنا أصنع سرابي وأتبعه .
ماذا لو تمزقت أحشائي أو خرج ذنبي من رأسي؟ رأسي يؤلمنى اﻷفكار تتزاحم في هامتي الضيقة و أود أن أقطع ناصيتي ﻷطلقها ـ يلمس رأسه ثم يضع يه اليمنى حولها ـ كم أتمنى أن أطلقها إن انتفاخ الرأس أبغض إلي من إنتفاخ البطن.
إلى من ألجأ إلى الحراس سيصلبونني كالضفدع ويعبثون بأحشائى .
إذن أستسلم لمصيري ،أي مصير هذا؟
سأذهب إلي أمي لقد كانت أم لخمس أنا أولهم وإن كنت أبدو أصغرهم.
يسير لامي مارا بعدد من الأقبية يلمح أمه من بعيد برفقتها شخوص ضخمة ، تبدو بذاتهم و خوذاتهم اللامعة من بعيد كتماثيل تخلد ملحمة على الرغم من حركتهم الواضحة الا أن ثمة جلال يحيط بهم يجعل من يراهم يظن أنهم في سكون..يحث لامي نفسه : ها هي ،إن الغرباء يحدثونها فهي من أكبر الناس عمرا في اﻷقبية .
الجو مظلم والمكان ضبابي رغم وجود إضاءة صناعية قوية ، الا أن لزوجة الهواء تجعل الرؤية مشوشة.
المكان نظيف خال من أي نوع من أنواع العفن و لكن رائحة العطن تملأ المكان ﻻبد أن الرائحة مصدرها الكتلة الحية في المكان ـ أقصد سكان اﻷقبية ـ فاﻷنابيب محكمة الغلق عالية التقنية تجعل مجرد الظن بوجود تسرب وهم وجب طرده .
إن اﻷراضي شمعية الملمس دافئة لها قوام عشبى مخملي بعيدة عن صلابة الجدران اﻹسمنتية و وعلى الرغم من ذلك ﻻ تلتصق بها الرائحة أو اﻷوساخ ،المكان يمتلئ بتقنيات تدفع الجميع للشعور بالدونية واﻹحباط وشعور آخر يصعب تسميته لكنه قريب للغربة ، فكل أساسيات المعيشة تعتمد على تقنيات معقدة يستحيل على سكان اﻷقبية استيعابها .
الشوارع واسعة تتفرع منها ممرات تسير مع أنابيب شفافة جدرانها من مادة أشبه بالزجاج لكنه زجاج ذكى يتغير لونه تبعا للسائل داخله فإن كان من الفئة 1 كان اللون أخضر،وإذا كان من الفئة 2 كان اللون أحمر ،أما الفئة 3 فاللون يتغير للأزرق.اﻷمر مناسب إذا كنت من سكان اﻷقبية فكل ما عليك هو ضغط الزر صاحب اللون المطابق للون الزجاج هذا هو عملهم باﻹضافة إلى أعمال التنظيف - أقصد تنظيف مخلفاتهم القليلة التي ﻻ توفر المدينة تقنيات للتخلص منها ـ إليك كيف تتخلص المدينة من مخلفاتهم : الوجبات التي تسلم لهم فى نهاية اليوم لها غرف خاصة ﻹستلامها ومن ثم ﻷكلها ثم التخلص من الفضلات والملابس ثمة منفذ للتخلص منها كل دورتي عمل (ثمانية عشر يوما) لذا علينا تنظيف بقية فضلاتنا ، يتسلم كل منهم رفش ومعول ورافعة وعلينا ابتكار بقية أدواتنا أو قل تركيبها من القطع المتاحة.
يدخل ﻻمي على أمه يجدها مجتمعة مع الغرباء يفكر : لما ﻻ أحدثهم عن أفكاري حول نظام اﻷقبية تلك أﻷبنية التى تحجب الشمس وتقينا من اﻵشعة اﻵشعة الكونية* ودقائق بيتا وألفا* وغيرها من الجسيمات المادية لدي طرق أفضل للحماية آه إن لدي الكثير من اﻷفكار ، لدي ما ﻻ يملكه سواي، يمكن للجميع اﻻستفادة من أفكاري ، يمكننا استخدام وسائل لتنفس نظير النتروجين -أقصد أهل المدن - نعم إن النظير عنصر مشع لكن يمكن تأيينه بواسطة أداة كهربية بسيطة كالتي أستخدمها ... آه أصمت .ـ يضع لامي يده على صدره ـ تكاد تقول خذوني ، اصمت وانتظر حتى يغادروا ، لقد ذهب الغرباء آن اﻷوان ﻷعترف لها ترى كيف سيكون رد فعلها؟
ﻻمى:كيف حالك (سديم)؟ لم أرك منذ مدة.
سديم:و ما الذى أجبرك للقائي أعلم أنك تكره رؤيتى وتشمئز مني.
لامي: أنا فقط ﻻ أرتاح لمجلس الغرباء لعلني أهابهم.
سديم :غريب على الرغم من أنك أشبه سكان اﻷقبية بهم.
لامي :توقفي عن حديثك هذا ﻻ تخلبى منطقى الصافى به ، لقد تعلمت درسي.
سديم :نعم لقد تعلمته لم تعد تطيل الحديث وتفتخر بالمعرفة كما كنت سابقا لقد أصبحت تحتفظ بالكثير لنفسك كما يبدو.
لامي :إذن عم كنتم تتكلمون أنت و سكان اﻷقبية ؟
سديم :أﻻ يحق لي أن أحتفظ بمعرفتي لنفسي أنا أيضا؟
لامي :لم يكن ذلك ديدنك معي من قبل ولكن فلتفعلي فلن أنال منك إﻻ خطل و هذي فقد طال عمرك أكثر مما تحتمله أنسجة رأسك الصغير اللزج.
سديم :ما الذى أتى بك إلى هنا (ﻻمي)؟ تكلم و ﻻ تخش لن تفيدك سلاطة لسانك هنا أرى في عينيك البراقتين أمل وخوف تكلم.
لامي :آه..ﻻ تعودي لحديثك هذا لقد قتلني من قبل و يقتلني اﻵن ولن تنقذيني وأنا أتعلق بك و أختنق بأملي لقد دفعتيني إلى الهرب من المدينة دفعتيني إلى الهلاك فهل تنقذيني؟
سديم :عن ماذا تتحدث ﻻمي ؟
لامي :عما يحدث لي لقد تنفست هواء طلقا وشربت ماء جار إن بشرتي تتساقط وذنبي ينكمش وقريبا سأكون ضفدعا معلقا في بهو ما ، يشق الغرباء بطني بينما أشاهد أحشائى تتوزع بين أيديهم.
سديم :كيف؟ ماذا تقول؟وكيف وصلت لهواء طلق أو ماء جار ؟و لم مازلت حيا؟
لامي :من هذا الذي يختبأ خلف العمود ؟
سديم :أي عمود هل تتوهم (ﻻمي)؟ هذا ﻷنك ﻻ تستعمل الطيب.
لامي :ها هو يا أمرأة خلف العمود اﻷزرق .
سديم: وهل يمكنك رؤية ما خلف العمود من هنا؟
سديم: وهل يمكنك رؤية ما خلف العمود من هنا؟
لامي:اصمتي إنه قادم نحونا .
سديم :صحيح أي نظر هذا؟ إنها لعين غريب عينك يا ﻻمي.
يقترب الشبح الذي رآه ﻻمي ، إنه أحد الغرباء في بذته اللامعه وخوذته الكبيرة ، يقترب بخطوات واسعة لكن ثابته نظرات اﻻنبهار تبدو على وجه سديم ، لكن على وجه ﻻمى تظهر ملامح أخري إنه يشعر بالغضب أمر مفهوم ، ولكن هذا الغضب يوجهه ﻷول مرة نحو أحد الغرباء ، ليس نحو (سديم) و ﻻ(كنان) بل نحو أحد الغرباء ، لكن ما فاجأ ﻻمى نفسه أن الغضب ممزوج باﻻحتقار، أمر غريب لطالما احتقر ﻻمي الجميع أمه (سديم ) ، صديقه العزيز (كنان ) ، نفسه ، ولكنه لم يحتقر أحد الغرباء قط بل لقد أعجب بهم و تمنى لو صدقت تنبؤات سديم ، تمنى لو ارتقى الى فوق ، فوق اﻷقبية حيث الغرباء و الجميلات و طوال العمر من سكان اﻷقبية ، حيث ينشئ الغرباء جيلا جديدا من السكان ليحيى خارج اﻷقبية، أو ليجعل الحياة خارج اﻷقبية ممكنة ، اﻷمر مختلف اﻵن إنه يحتقره ويوقن بأنه كان خلف العمود يتحسس خطوات ﻻمي ويتجسس على كلماته مع (سديم) ، أليس لديهم قدرات أو آﻻت تمكنهم من اﻹحاطة بمثل تلك المحادثات؟ ثم أليسوا أعلى وأرقى من أن يتجسسوا على ساكن حقير قصير الأجل مثل (ﻻمي) ؟
الغريب بصوت هادئ رخيم لكن واضح أنه صناعي فلهم كلهم أصوات متشابهه : (سديم) يبدو أنك منهمكة في اللقاءات اليوم لقد تركناك منذ ثواني وها أنت قد وجدت من يشغل محلك ﻻبد أنك مهمة حقا كما يظن سكان اﻷقبية ، مهمة جدا بشكل يسمح لك بالارتقاء فوق.
سديم والسعادة بادية على وجهها : إنه أحد أينائي سيدي، اﻷقرب إلي قلبي ممن استولدتموني انظر إليه أقسم إنه سيحيا أضعاف عمر أقرانه كما إنه مميز مميز جدا لقد رآك من بعيد من خلف العمود حتى أنني ظننته يتوهم.
الغريب وقد سمع لامي شيئا في صوته ، شيئا خالط صوته أمر غريب ﻻعهد لسكان اﻷقبية به مع الغرباء لطالما كانت أجهزتهم الصوتية محكمة ﻻ تشوش وﻻ تهتز ولكن الصوت يهتز ـ فقط لامي سمعه ـ يكمل صوت الغريب : أنا كما تعرفين أقوم بالحراسة.
ﻻمي :حراسة أي حراسة لم نسمع عنكم بأنكم تحرسون.
سديم :أعذره سيدي..ثم توجه حديثها نحو ﻻمي..:ومن يحرسنا إذن يا أحمق.
ﻻمي : يحرسنا مما يحرسنا؟ وهل يحيا في اﻷقبية سوانا وتلك اﻷنابيب؟ثم إن لديهم من القدرات أو اﻵﻻت ما يكفيهم عناء التجسس والتحسس.
تتغير وقفة الغريب حتى أن الرائي ليجزم إنه لو وجد تحت خوذته رأس كرأس سكان اﻷقبية لبدا عليه الغضب تلاحظ (سديم) هذا فتتدخل متكلفة اﻻبتسام وهو في الحقيقة ﻻيكون إلا متكلفا في اﻷقبية : ﻻمي دع عنك الحماقة والسذاجة وشاهد الهولوجرام و لو مرة لتتعلم شيئا لقد صدق الجميع حين قالوا أن قلة الطيب أفسدت دماغك.
بدا أن كلا الغريمين -نعم غريمان هكذا ظهر (ﻻمي) في مواجهة الغريب -الحارس ، لطالما كان سكان اﻷقبية يظهرون أقزاما أمام الغرباء لكن ﻻمي بدا ندا حقيقيا - بدا الغريمان غير مهتمين بمحاولة (سديم) تهدئة الهواء، ﻷول مرة يتحرك هواء اﻷقبية الثقيل ،كانت محاوﻻتها دون جدوى ، غير الغريب وقفته مرة أخرى ،لقد بدا كحارس حقا هذه المرة فلو وجدت تحت خوذته رأس كالتي نعرفها لرأيت ملامح التيقن والثقه ، رأيت عملاقا ينظر إلى قزم و بالفعل بدا أن ﻻمي يتضائل إن أوصاله ﻻ تستطيع حمله إن جسده يتداعي لكن جسده فقط.
ﻻمي محدثا تفسه : ما هذا الشعور أشعر بصدري يطوى إنني أفقد الوعي ، ماذا ألم بي ؟
"يبدو إذن ان جسده ليس فقط الذي يتداعى ."
يسترد (ﻻمي) وعيه بصعوبه ليجد نفسه نائما على سرير مريح ملمسه شمعي كملمس أرضية اﻷقبية ولكنه ذا قوام داعم صلب يحاكي انحناء عموده الفقري ، سرير مريح لكنه ﻻ يشعر بالراحة بل بالضيق ؛ فهو غير قادر على تحريك أي من عضلات جسده الإرادية باستثناء حدقتيه حتى جفنيه لا يستطيع تحريكهما.
أي عذاب هذا ؟ كيف ينبثق هذا العذاب من جسد في أقصى درجات الراحة و اﻻستقرار، رغم أن جسده لم ينعم براحة كتلك من قبل - حقا راحة أبيقورية*- لكن صدره يضيق ويطبق على صرخات محمومة تبحث عن طريق إلى حلقه ، يحاول تهدئة نفسه ، ترتيب أفكاره دون جدوى فعقله مليء بنبوءات العذاب و اﻷلم ، سيقومون بتشريحه بينما يشاهد.
وبينما تسير المركبة بسرير (ﻻمي) يرى هولوجرام إعلاني لمائة قرد يطبعون* على لوحة مفاتيح تبدو قديمة ، بينما يقف أحد السكان مبهورا بنتاج عملهم لم يفهم قط (ﻻمي) معنى تلك الدعاية لطالما رآها هو وسكان اﻷقبية لكن لم يفهموا مغزاها ، إنه أمر خاص بالغرباء كما يعتقد الجميع ، لكن ما أثار حيرته حقا كيف علم الجميع أنهم مائه قرد ؟رغم أن الدعاية ﻻتصرح بهذا حتى أنه من المستحيل إحصائهم نظرا لقصر الدعاية .
لقد هدأت تلك اﻷفكار روعه قليلا في حين يدخل لامي مكان أبيض الحوائط (كل حوائط مدينة اﻷقبية رمادية مائلة للسواد ) مما يدفع حدقتيه الى الانكماش ويشعر بعضلات حاجبيه.. هه، لقد جفل إنه يستعيد السيطرة على جسده يجب ألا يعلمهم بذلك ،هكذا قد يستطيع الهرب .
ولكن كيف علموا ،هل وشى به (كنان) منذ متى يراقبه الغريب_الحارس ؟ ولما لم يقبضوا عليه من قبل ، يقترب منه أحد الغرباء و يبدو أنه سيحل اﻷحزمة التي تربطه بلطف بسريره قائلا: ليس ثمة حاجة لهذا اﻵن ﻻبد أنك استعدت بعض تحكمك بجسدك.
تضرب المفاجأة ﻻمي حتى أنه يشعر بحيوية أكبر من التي تمنى أن يحظى بها لكي يهرب ، لكنه يحدث نفسه قائلا:لا أمل إذن.
الغريب يسأل:ﻻبد أنك تتسائل عما حدث لك اﻷمر واضح إذا كنت تفكر بوضوح وهو اﻷمر الذي أستبعده نظرا لكونك ﻻ تحصل على جرعتك من الطيب ، دعني أفسر لك إذن ، لقد واجهت أحد الغرباء .
ﻻمي يجيب كما لو أنه لم يسمع السؤال :أنا لم أفعل...يتوقف متعجبا ثم يستطرد:ما قصدك بواجهت أحد الغرباء؟
الغريب: أﻻ تقدر الغرباء.
ﻻمي بضيق: أنا لم أسئ اليه ، لقد تساءلت فقط
الغريب مقاطعا: ماذا تقصد بتساءلت فقط ، لقد أظهرت شكا في تصرفاته ثم حاولت ان تبني حججا لتؤكد ظنونك ، هل تظن أن الغرباء يخطئون ؟ هل تظن أنهم تصرفاتهم دون جدوى؟ يمكنني أن أعيد فحوى حديثك.
ﻻمي :هل هذا سبب فقداني الوعي ؟ ﻷنني شككت؟!
ينتظر الغريب قليلا ثم يرد : نعم بالتأكيد.
ﻻمي : إذن فبمجرد الشك بالغرباء يفقد المرء الوعي ، بمجرد الشك أم التشكيك؟!
الغريب يحول خوذته بعيدا عن ﻻمي يحرك طرفيه العلويين كمن ينشغل فى حديث مع أحد ما ثم يزداد توهج أحد جوانب البهو و ظهر غريب آخر يقول الغريب الجديد: هل تظن أنك قادر، قادر على إظهارنا كمن كمن يخطئ.
(ﻻمي) و قد تمالك نفسه فقد تحول بعض خوفه الى ثقة : أنا فقط أتسائل لم يحرسني أحد الغرباء؟..ثم يعتدل في جلسته.
الغريب القادم من الوهج : لقد ظننتك مجرد أحمق ، لكنك أسوأ من ذلك،إذن أنت تشكك في الغرباء ، تهيل مخلفاتك على فضلهم ، هل تظن أن بإمكانك أن تطمر الشمس؟ كيف كنت ستحيا لولا الغرباء ؟كيف كنت ستوجد لولا الغرباء؟هل تعرف ماذا يسمى كلامك هذا؟
لامى يرد بسرعة :هرطقة ، زندقة؟!..بدا رده لاذعا ، لكنه سرعان ما ندم وتمنى سحب كلمتيه اﻷخريين ، يستغل صمت الغريب يحاول التراجع عن كلماته ، ويكمل : سيدي كل ما أردته أن تسمح لي(سديم) بمقابلة أحد الغرباء ؛ لدي الكثير من اﻷفكار التي ستفيد اﻷقبية ، و طالما تمنيت أن أعرضها عليكم .
كانت تلك محاولة لخداع الغرباء-الحراس لكن يبدو انها لم تثمر. فقد رد الغريب قائلا : إذن تريد أن تصعد فوق، يا لها من طريقة للصعود ! تزدري المكان الذي ترنو إليه....ثم تابع الغريب بنبره مختلفه جهورية صكت أذن ﻻمي : خذوه.
و غاب ﻻمي عن الوعي.
يفيق ﻻمي على رائحة غربية عليه ، رائحة مهيجة للأنوف رائحة احتراق يفتح عينيه على وهج شديد لم يشهده من قبل (إذا استثنينا وهج الشمس الذي أغرم به من المرة اﻷولى التي رآه فيها )
يجب أن نذكر كيف وصل (ﻻمي) للهواء الطلق كيف استظل بنور الشمس كيف تعرض ﻷول مرة لفيتامين "د" طبيعى وليس عبر مصابيح اﻷقبية أو من خلال الوجبات ، إن التوغل حيث يحرص (ﻻمي) على إخفاء ذكراه اﻷكثر ألما أمر ضروري لتفهم ما سيقدم عليه (لامي) ، و حتى ﻻ تخيب توقعاتك ،الذكرى ليست مؤلمة لمقتل شخص عزيز عليه و ليست مؤلمة بسبب عذاب جسدي ، فلا يتعرض أهل اﻷقبية لعذاب جسدي ولم يروا أحد تعرض له من قبل ، إن اﻷقاويل عن أشخاص يتم تشريحهم و هم ينظرون مجرد أسطورة شعبية تنمو في عقول سكان اﻷقبية دون معرفة مصدر بذورها وتنتقل إلى كل وافد جديد كحبوب اللقاح ولكن دون رياح (لا رياح في اﻷقبية ) .
تتلخص تلك الذكرى كالتالي "منذ اكتسب (ﻻمي) ادراكه ملأته سديم بمسلمات غير التي يحصل عليها من مؤثرات النوم ،أول تلك المسلمات أن (ﻻمي) سيكون عظيما و سيصعد إلى فوق مع من تفرد من سكان اﻷقبية ليعملوا تحت إشراف الغرباء ، ﻹخراج جيل جديد قادر على الحياة خارج اﻷقبية، وقد أظهر ﻻمي صدق نبوءة سديم في كثير من اﻷوقات ،إذ تعلم قراءة رموز اللغة المكتوبة وفك طلاسمها وكان يجمع اﻷوراق التي في القسم اﻷخير من المدينة حيث كان تحت اﻹنشاء.
ﻻ يسمح الغرباء للسكان بالاقتراب من الانشاءات لكن كان ثمة درجة من التساهل مع (ﻻمي) الصغير الذي تمنى أن يملك ورقات كالتي يملكها خاله (ساري) فقد كان الاخير رمز تفوق بين سكان اﻷقبية ، كان (ﻻمي) معجزة حقا يتجمع حوله السكان رغم ضآلته وينظرون إليه نظرات إعجاب لم توجه ﻷحد السكان قط حتى (ساري)، لكن معجزة (ﻻمي) الصغيرة لم تدم كثيرا فقد أصبحت كلماته مربكة ، وتوقف عن إبهار السكان بتجاربه البسيطة التي تشرح بعض قوانين الفيزياء بل وتوضح سبب ميل اﻷنابيب والحكمة من أن سماء- سقف اﻷقبية على هيئة قباب باﻹضافة إلى بعض الحيل الحسابية التي لم يعلم عنها أهل اﻷقبية شيئا، لقد غير كلماته فصار يتساءل عن الغرباء ، بل أسوأ صار يتساءل عن السكان أنفسهم و يدعي أنهم كانوا عظماء من قبل عظماء كالغرباء، كانت القاسمة حين قال: أين من يرقون فوق ؟وما الذي أنجزوه إلى اﻷن؟ ولما ﻻ نقابل أحدهم ؟ هل تعرفون أحد رقى إلى فوق باستثناء المستولدات؟
انفض المجلس من حول ﻻمي في غضب وحيرة ، لكن ﻻمي الصغير تابع أحاديثه المربكة حتى صار مفسدا للمجامع.
وبينما يعود ﻻمي لترهاته رد عليه أحدهم : لو كنت ذكيا كما تدعي لصعدت فوق.
ﻻمي : لم أدعي ذلك و ما أقوله إننا ﻻ نعلم إن كان ثمة من يأخذ فوق باستثناء المستولدات.
يتابع الرجل: لمجرد أنهم لم يأخذوك هذا ﻻ يعني أنهم ﻻ يأخذون أحد.
ثم في أثناء الحوار ـ و يا لسوء طالع لامي ـ يعرض الهولوجرام في اﻷعلى دعاية تظهر بعض سكان اﻷقبية في ملابس غريبة بيضاء وفي غرف بيضاء يقومون بإنجاز أعمال تظهر الدعاية أنها ستنشئ جيلا جديدا من السكان قادرا على الصعود إلى فوق و العمل فى الخارج، بهت ﻻمي وأسقط في يديه ولم يشترك في مجمعا مرة أخرى ، لكن اﻷمر لم يقف عند هذا الحد فقد أسرع لامي حيث يجد السكينة و الثقة ، لقد ذهب حيث موقع البناء فوجده مليئا بالغرباء شاهدهم من بعيد برؤية ثاقبة ستزداد حدة فيما بعد ، لم يجرؤ (ﻻمي) على اﻻقتراب منهم كما اعتاد أن يفعل ولكنه زحف بموازاة خط اﻷنابيب حتى نهايته ليجد كومة من مادة اﻷرضيات اختبأ ورائها وخطرت بباله فكرة انها خطيرة لكن (لامى) كان عازما على الهروب من ألمه ،الهروب الى وريقاته التي لطالما أعطته الثقة.
إن قوام الأرضيات العشبى يغريه بسحب احداها ،هي كبيرة ولكن يمكن طيها ، طواها (لامي) مرتين لتشكل مربعا طول ضلعه أطول من (ﻻمي) قليلا دخل ﻻمي بأحد الطيات بعدما وضع أرضيته بجانب كومة اﻷرضيات ودفعها بقدمه فسقطت اﻷرضيات على الأرضية التي يختبأ بها ﻻمي جاء أحد الغرباء بعد سماعه لصوت اﻻرتطام واستخدم ذراعا آلية لتحمل اﻷرضيات ومن بينها اﻷرضية التي يختبئ بها (ﻻمي) تحركت المركبة أخرج (ﻻمي) رأسه و تفحص المكان باحثا عن أقرب الطرق للمكان الذي يجمع منه اﻷوراق ، لقد وجده.
قفز (ﻻمي) على اﻷرضية الشمعية لكن قفزته لم تصدر صوتا يذكر وتحرك نحو وجهته ولكن لم يجد شيئا لقد أتموا البناء و أزالوا المخلفات لكن ﻻمي الصغير لم يقبل تلك النتيجة فأخذ يهيم باحثا عن أية علامة ترشده لمخزون اﻷوراق.,
بدا أنهم أغلقوا نافذة اﻷمل الوحيدة التي عرفها ﻻمي و أصبحت اﻷقبية على مرمى بصر (ﻻمي) نظيفة لامتناهية كاليأس الذي تملكه ولكن وميض نور لمع من مكان بعيد اتجه ﻻمي نحوه.
اتجه (ﻻمي) نحو الضوء إنه بعيد عليه الحذر من أن يراه أحدهم، ربما من اﻷفضل أن يزحف على طول خط اﻷنابيب لكنها تنتهي، إنه يرى نهايتها لكن لهذا دﻻلة جيدة إنه يقترب من منطقة إنشاء ربما يجد بعض المخلفات وبينها بعض الورقات، الاضاءة تزداد توهجا، سيسهل كشفه ، إنها أقوى إضاءة رآها إلى اﻵن في اﻷقبية، أمر غريب ليس ثمة مصابيح ، ما هذا الشعور وخز خفيف يداعب أذنيه،هل هو الهواء؟يحرك الهواء شعيرات زغبية على وجهه لم يعرف انه يملكها إﻻ اﻵن.
لقد سلبه أول لقاء له مع النسيم حذره ، يقف على قائمتيه ويتحرك نحو الضوء القادم من فتحات في اﻷقبية التي لم يكمل إنشائها ، ﻷول مرة يرى سماء غير سقف اﻷقبية ، رغم ذلك الجدران تحيط به تسد اﻷفق ليس ثمة بوابة إلى الخارج.
يقطع انبهار ﻻمي بالمشهد الجديد شعور غريب جديد ، إذ تتعثر قدمه بأرض صلبه غير ممهدة ،أرض ﻻ عهد لسكان اﻷقبية بها ،إنه يشعر بألم يعقبه شعور بلذة ـ ﻻ ليس (لامي) مازوخيا إنه الدوبامين الذي ﻻ يطلق كثيرا في اﻷقبية ـ اﻷرض متكسرة لو عرف ﻻمي اﻷسفلت لبدا المشهد أمامه كأسفلت محطم يؤدي لنفق صغير يشبه الجحر غير انه يسع فرد كبير من سكان اﻷقبية من اﻷفراد اﻷكبر حجما، يزحف (ﻻمي) داخل النفق حيث الظلام يلتهم الضوء و يلتهم معه الجرأة الطارئة التي أصابت (ﻻمي) لكنه يبتلع خوفه مع بعض تراب النفق ويكمل الزحف نحو النسيم ها هو الضوء يتسلل إلى النفق لقد عرج ﻻمي إلى المشهد الذي تطلع إليه دون أن يراه، لقد اقتنص ما ظنه محاﻻ ،المشهد مشهد بلدة مهجورة يعاد تعميرها ولكن لا أثر لآليات التعمير، أراض ممسوحة و أخرى محفورة بلا أثر ﻷي حركة سوى حركة الهواء،على الرغم من ذلك كان المشهد خلابا إلى ان أحس (ﻻمي) بألم في صدره:ﻻبد أنه الهواء ،يجب أن أعود بسرعة .قالها (لامي) الصغير محدثا نفسه.
**********
***********
حاشية على القصة: *لامي اسم مأخوذ من الهواء الطلق وستتبين دلالة الاسم مع تقدم الفصول.يقترب الشبح الذي رآه ﻻمي ، إنه أحد الغرباء في بذته اللامعه وخوذته الكبيرة ، يقترب بخطوات واسعة لكن ثابته نظرات اﻻنبهار تبدو على وجه سديم ، لكن على وجه ﻻمى تظهر ملامح أخري إنه يشعر بالغضب أمر مفهوم ، ولكن هذا الغضب يوجهه ﻷول مرة نحو أحد الغرباء ، ليس نحو (سديم) و ﻻ(كنان) بل نحو أحد الغرباء ، لكن ما فاجأ ﻻمى نفسه أن الغضب ممزوج باﻻحتقار، أمر غريب لطالما احتقر ﻻمي الجميع أمه (سديم ) ، صديقه العزيز (كنان ) ، نفسه ، ولكنه لم يحتقر أحد الغرباء قط بل لقد أعجب بهم و تمنى لو صدقت تنبؤات سديم ، تمنى لو ارتقى الى فوق ، فوق اﻷقبية حيث الغرباء و الجميلات و طوال العمر من سكان اﻷقبية ، حيث ينشئ الغرباء جيلا جديدا من السكان ليحيى خارج اﻷقبية، أو ليجعل الحياة خارج اﻷقبية ممكنة ، اﻷمر مختلف اﻵن إنه يحتقره ويوقن بأنه كان خلف العمود يتحسس خطوات ﻻمي ويتجسس على كلماته مع (سديم) ، أليس لديهم قدرات أو آﻻت تمكنهم من اﻹحاطة بمثل تلك المحادثات؟ ثم أليسوا أعلى وأرقى من أن يتجسسوا على ساكن حقير قصير الأجل مثل (ﻻمي) ؟
الغريب بصوت هادئ رخيم لكن واضح أنه صناعي فلهم كلهم أصوات متشابهه : (سديم) يبدو أنك منهمكة في اللقاءات اليوم لقد تركناك منذ ثواني وها أنت قد وجدت من يشغل محلك ﻻبد أنك مهمة حقا كما يظن سكان اﻷقبية ، مهمة جدا بشكل يسمح لك بالارتقاء فوق.
سديم والسعادة بادية على وجهها : إنه أحد أينائي سيدي، اﻷقرب إلي قلبي ممن استولدتموني انظر إليه أقسم إنه سيحيا أضعاف عمر أقرانه كما إنه مميز مميز جدا لقد رآك من بعيد من خلف العمود حتى أنني ظننته يتوهم.
الغريب وقد سمع لامي شيئا في صوته ، شيئا خالط صوته أمر غريب ﻻعهد لسكان اﻷقبية به مع الغرباء لطالما كانت أجهزتهم الصوتية محكمة ﻻ تشوش وﻻ تهتز ولكن الصوت يهتز ـ فقط لامي سمعه ـ يكمل صوت الغريب : أنا كما تعرفين أقوم بالحراسة.
ﻻمي :حراسة أي حراسة لم نسمع عنكم بأنكم تحرسون.
سديم :أعذره سيدي..ثم توجه حديثها نحو ﻻمي..:ومن يحرسنا إذن يا أحمق.
ﻻمي : يحرسنا مما يحرسنا؟ وهل يحيا في اﻷقبية سوانا وتلك اﻷنابيب؟ثم إن لديهم من القدرات أو اﻵﻻت ما يكفيهم عناء التجسس والتحسس.
تتغير وقفة الغريب حتى أن الرائي ليجزم إنه لو وجد تحت خوذته رأس كرأس سكان اﻷقبية لبدا عليه الغضب تلاحظ (سديم) هذا فتتدخل متكلفة اﻻبتسام وهو في الحقيقة ﻻيكون إلا متكلفا في اﻷقبية : ﻻمي دع عنك الحماقة والسذاجة وشاهد الهولوجرام و لو مرة لتتعلم شيئا لقد صدق الجميع حين قالوا أن قلة الطيب أفسدت دماغك.
بدا أن كلا الغريمين -نعم غريمان هكذا ظهر (ﻻمي) في مواجهة الغريب -الحارس ، لطالما كان سكان اﻷقبية يظهرون أقزاما أمام الغرباء لكن ﻻمي بدا ندا حقيقيا - بدا الغريمان غير مهتمين بمحاولة (سديم) تهدئة الهواء، ﻷول مرة يتحرك هواء اﻷقبية الثقيل ،كانت محاوﻻتها دون جدوى ، غير الغريب وقفته مرة أخرى ،لقد بدا كحارس حقا هذه المرة فلو وجدت تحت خوذته رأس كالتي نعرفها لرأيت ملامح التيقن والثقه ، رأيت عملاقا ينظر إلى قزم و بالفعل بدا أن ﻻمي يتضائل إن أوصاله ﻻ تستطيع حمله إن جسده يتداعي لكن جسده فقط.
ﻻمي محدثا تفسه : ما هذا الشعور أشعر بصدري يطوى إنني أفقد الوعي ، ماذا ألم بي ؟
"يبدو إذن ان جسده ليس فقط الذي يتداعى ."
يسترد (ﻻمي) وعيه بصعوبه ليجد نفسه نائما على سرير مريح ملمسه شمعي كملمس أرضية اﻷقبية ولكنه ذا قوام داعم صلب يحاكي انحناء عموده الفقري ، سرير مريح لكنه ﻻ يشعر بالراحة بل بالضيق ؛ فهو غير قادر على تحريك أي من عضلات جسده الإرادية باستثناء حدقتيه حتى جفنيه لا يستطيع تحريكهما.
أي عذاب هذا ؟ كيف ينبثق هذا العذاب من جسد في أقصى درجات الراحة و اﻻستقرار، رغم أن جسده لم ينعم براحة كتلك من قبل - حقا راحة أبيقورية*- لكن صدره يضيق ويطبق على صرخات محمومة تبحث عن طريق إلى حلقه ، يحاول تهدئة نفسه ، ترتيب أفكاره دون جدوى فعقله مليء بنبوءات العذاب و اﻷلم ، سيقومون بتشريحه بينما يشاهد.
وبينما تسير المركبة بسرير (ﻻمي) يرى هولوجرام إعلاني لمائة قرد يطبعون* على لوحة مفاتيح تبدو قديمة ، بينما يقف أحد السكان مبهورا بنتاج عملهم لم يفهم قط (ﻻمي) معنى تلك الدعاية لطالما رآها هو وسكان اﻷقبية لكن لم يفهموا مغزاها ، إنه أمر خاص بالغرباء كما يعتقد الجميع ، لكن ما أثار حيرته حقا كيف علم الجميع أنهم مائه قرد ؟رغم أن الدعاية ﻻتصرح بهذا حتى أنه من المستحيل إحصائهم نظرا لقصر الدعاية .
لقد هدأت تلك اﻷفكار روعه قليلا في حين يدخل لامي مكان أبيض الحوائط (كل حوائط مدينة اﻷقبية رمادية مائلة للسواد ) مما يدفع حدقتيه الى الانكماش ويشعر بعضلات حاجبيه.. هه، لقد جفل إنه يستعيد السيطرة على جسده يجب ألا يعلمهم بذلك ،هكذا قد يستطيع الهرب .
ولكن كيف علموا ،هل وشى به (كنان) منذ متى يراقبه الغريب_الحارس ؟ ولما لم يقبضوا عليه من قبل ، يقترب منه أحد الغرباء و يبدو أنه سيحل اﻷحزمة التي تربطه بلطف بسريره قائلا: ليس ثمة حاجة لهذا اﻵن ﻻبد أنك استعدت بعض تحكمك بجسدك.
تضرب المفاجأة ﻻمي حتى أنه يشعر بحيوية أكبر من التي تمنى أن يحظى بها لكي يهرب ، لكنه يحدث نفسه قائلا:لا أمل إذن.
الغريب يسأل:ﻻبد أنك تتسائل عما حدث لك اﻷمر واضح إذا كنت تفكر بوضوح وهو اﻷمر الذي أستبعده نظرا لكونك ﻻ تحصل على جرعتك من الطيب ، دعني أفسر لك إذن ، لقد واجهت أحد الغرباء .
ﻻمي يجيب كما لو أنه لم يسمع السؤال :أنا لم أفعل...يتوقف متعجبا ثم يستطرد:ما قصدك بواجهت أحد الغرباء؟
الغريب: أﻻ تقدر الغرباء.
ﻻمي بضيق: أنا لم أسئ اليه ، لقد تساءلت فقط
الغريب مقاطعا: ماذا تقصد بتساءلت فقط ، لقد أظهرت شكا في تصرفاته ثم حاولت ان تبني حججا لتؤكد ظنونك ، هل تظن أن الغرباء يخطئون ؟ هل تظن أنهم تصرفاتهم دون جدوى؟ يمكنني أن أعيد فحوى حديثك.
ﻻمي :هل هذا سبب فقداني الوعي ؟ ﻷنني شككت؟!
ينتظر الغريب قليلا ثم يرد : نعم بالتأكيد.
ﻻمي : إذن فبمجرد الشك بالغرباء يفقد المرء الوعي ، بمجرد الشك أم التشكيك؟!
الغريب يحول خوذته بعيدا عن ﻻمي يحرك طرفيه العلويين كمن ينشغل فى حديث مع أحد ما ثم يزداد توهج أحد جوانب البهو و ظهر غريب آخر يقول الغريب الجديد: هل تظن أنك قادر، قادر على إظهارنا كمن كمن يخطئ.
(ﻻمي) و قد تمالك نفسه فقد تحول بعض خوفه الى ثقة : أنا فقط أتسائل لم يحرسني أحد الغرباء؟..ثم يعتدل في جلسته.
الغريب القادم من الوهج : لقد ظننتك مجرد أحمق ، لكنك أسوأ من ذلك،إذن أنت تشكك في الغرباء ، تهيل مخلفاتك على فضلهم ، هل تظن أن بإمكانك أن تطمر الشمس؟ كيف كنت ستحيا لولا الغرباء ؟كيف كنت ستوجد لولا الغرباء؟هل تعرف ماذا يسمى كلامك هذا؟
لامى يرد بسرعة :هرطقة ، زندقة؟!..بدا رده لاذعا ، لكنه سرعان ما ندم وتمنى سحب كلمتيه اﻷخريين ، يستغل صمت الغريب يحاول التراجع عن كلماته ، ويكمل : سيدي كل ما أردته أن تسمح لي(سديم) بمقابلة أحد الغرباء ؛ لدي الكثير من اﻷفكار التي ستفيد اﻷقبية ، و طالما تمنيت أن أعرضها عليكم .
كانت تلك محاولة لخداع الغرباء-الحراس لكن يبدو انها لم تثمر. فقد رد الغريب قائلا : إذن تريد أن تصعد فوق، يا لها من طريقة للصعود ! تزدري المكان الذي ترنو إليه....ثم تابع الغريب بنبره مختلفه جهورية صكت أذن ﻻمي : خذوه.
و غاب ﻻمي عن الوعي.
يفيق ﻻمي على رائحة غربية عليه ، رائحة مهيجة للأنوف رائحة احتراق يفتح عينيه على وهج شديد لم يشهده من قبل (إذا استثنينا وهج الشمس الذي أغرم به من المرة اﻷولى التي رآه فيها )
يجب أن نذكر كيف وصل (ﻻمي) للهواء الطلق كيف استظل بنور الشمس كيف تعرض ﻷول مرة لفيتامين "د" طبيعى وليس عبر مصابيح اﻷقبية أو من خلال الوجبات ، إن التوغل حيث يحرص (ﻻمي) على إخفاء ذكراه اﻷكثر ألما أمر ضروري لتفهم ما سيقدم عليه (لامي) ، و حتى ﻻ تخيب توقعاتك ،الذكرى ليست مؤلمة لمقتل شخص عزيز عليه و ليست مؤلمة بسبب عذاب جسدي ، فلا يتعرض أهل اﻷقبية لعذاب جسدي ولم يروا أحد تعرض له من قبل ، إن اﻷقاويل عن أشخاص يتم تشريحهم و هم ينظرون مجرد أسطورة شعبية تنمو في عقول سكان اﻷقبية دون معرفة مصدر بذورها وتنتقل إلى كل وافد جديد كحبوب اللقاح ولكن دون رياح (لا رياح في اﻷقبية ) .
تتلخص تلك الذكرى كالتالي "منذ اكتسب (ﻻمي) ادراكه ملأته سديم بمسلمات غير التي يحصل عليها من مؤثرات النوم ،أول تلك المسلمات أن (ﻻمي) سيكون عظيما و سيصعد إلى فوق مع من تفرد من سكان اﻷقبية ليعملوا تحت إشراف الغرباء ، ﻹخراج جيل جديد قادر على الحياة خارج اﻷقبية، وقد أظهر ﻻمي صدق نبوءة سديم في كثير من اﻷوقات ،إذ تعلم قراءة رموز اللغة المكتوبة وفك طلاسمها وكان يجمع اﻷوراق التي في القسم اﻷخير من المدينة حيث كان تحت اﻹنشاء.
ﻻ يسمح الغرباء للسكان بالاقتراب من الانشاءات لكن كان ثمة درجة من التساهل مع (ﻻمي) الصغير الذي تمنى أن يملك ورقات كالتي يملكها خاله (ساري) فقد كان الاخير رمز تفوق بين سكان اﻷقبية ، كان (ﻻمي) معجزة حقا يتجمع حوله السكان رغم ضآلته وينظرون إليه نظرات إعجاب لم توجه ﻷحد السكان قط حتى (ساري)، لكن معجزة (ﻻمي) الصغيرة لم تدم كثيرا فقد أصبحت كلماته مربكة ، وتوقف عن إبهار السكان بتجاربه البسيطة التي تشرح بعض قوانين الفيزياء بل وتوضح سبب ميل اﻷنابيب والحكمة من أن سماء- سقف اﻷقبية على هيئة قباب باﻹضافة إلى بعض الحيل الحسابية التي لم يعلم عنها أهل اﻷقبية شيئا، لقد غير كلماته فصار يتساءل عن الغرباء ، بل أسوأ صار يتساءل عن السكان أنفسهم و يدعي أنهم كانوا عظماء من قبل عظماء كالغرباء، كانت القاسمة حين قال: أين من يرقون فوق ؟وما الذي أنجزوه إلى اﻷن؟ ولما ﻻ نقابل أحدهم ؟ هل تعرفون أحد رقى إلى فوق باستثناء المستولدات؟
انفض المجلس من حول ﻻمي في غضب وحيرة ، لكن ﻻمي الصغير تابع أحاديثه المربكة حتى صار مفسدا للمجامع.
وبينما يعود ﻻمي لترهاته رد عليه أحدهم : لو كنت ذكيا كما تدعي لصعدت فوق.
ﻻمي : لم أدعي ذلك و ما أقوله إننا ﻻ نعلم إن كان ثمة من يأخذ فوق باستثناء المستولدات.
يتابع الرجل: لمجرد أنهم لم يأخذوك هذا ﻻ يعني أنهم ﻻ يأخذون أحد.
ثم في أثناء الحوار ـ و يا لسوء طالع لامي ـ يعرض الهولوجرام في اﻷعلى دعاية تظهر بعض سكان اﻷقبية في ملابس غريبة بيضاء وفي غرف بيضاء يقومون بإنجاز أعمال تظهر الدعاية أنها ستنشئ جيلا جديدا من السكان قادرا على الصعود إلى فوق و العمل فى الخارج، بهت ﻻمي وأسقط في يديه ولم يشترك في مجمعا مرة أخرى ، لكن اﻷمر لم يقف عند هذا الحد فقد أسرع لامي حيث يجد السكينة و الثقة ، لقد ذهب حيث موقع البناء فوجده مليئا بالغرباء شاهدهم من بعيد برؤية ثاقبة ستزداد حدة فيما بعد ، لم يجرؤ (ﻻمي) على اﻻقتراب منهم كما اعتاد أن يفعل ولكنه زحف بموازاة خط اﻷنابيب حتى نهايته ليجد كومة من مادة اﻷرضيات اختبأ ورائها وخطرت بباله فكرة انها خطيرة لكن (لامى) كان عازما على الهروب من ألمه ،الهروب الى وريقاته التي لطالما أعطته الثقة.
إن قوام الأرضيات العشبى يغريه بسحب احداها ،هي كبيرة ولكن يمكن طيها ، طواها (لامي) مرتين لتشكل مربعا طول ضلعه أطول من (ﻻمي) قليلا دخل ﻻمي بأحد الطيات بعدما وضع أرضيته بجانب كومة اﻷرضيات ودفعها بقدمه فسقطت اﻷرضيات على الأرضية التي يختبأ بها ﻻمي جاء أحد الغرباء بعد سماعه لصوت اﻻرتطام واستخدم ذراعا آلية لتحمل اﻷرضيات ومن بينها اﻷرضية التي يختبئ بها (ﻻمي) تحركت المركبة أخرج (ﻻمي) رأسه و تفحص المكان باحثا عن أقرب الطرق للمكان الذي يجمع منه اﻷوراق ، لقد وجده.
قفز (ﻻمي) على اﻷرضية الشمعية لكن قفزته لم تصدر صوتا يذكر وتحرك نحو وجهته ولكن لم يجد شيئا لقد أتموا البناء و أزالوا المخلفات لكن ﻻمي الصغير لم يقبل تلك النتيجة فأخذ يهيم باحثا عن أية علامة ترشده لمخزون اﻷوراق.,
بدا أنهم أغلقوا نافذة اﻷمل الوحيدة التي عرفها ﻻمي و أصبحت اﻷقبية على مرمى بصر (ﻻمي) نظيفة لامتناهية كاليأس الذي تملكه ولكن وميض نور لمع من مكان بعيد اتجه ﻻمي نحوه.
اتجه (ﻻمي) نحو الضوء إنه بعيد عليه الحذر من أن يراه أحدهم، ربما من اﻷفضل أن يزحف على طول خط اﻷنابيب لكنها تنتهي، إنه يرى نهايتها لكن لهذا دﻻلة جيدة إنه يقترب من منطقة إنشاء ربما يجد بعض المخلفات وبينها بعض الورقات، الاضاءة تزداد توهجا، سيسهل كشفه ، إنها أقوى إضاءة رآها إلى اﻵن في اﻷقبية، أمر غريب ليس ثمة مصابيح ، ما هذا الشعور وخز خفيف يداعب أذنيه،هل هو الهواء؟يحرك الهواء شعيرات زغبية على وجهه لم يعرف انه يملكها إﻻ اﻵن.
لقد سلبه أول لقاء له مع النسيم حذره ، يقف على قائمتيه ويتحرك نحو الضوء القادم من فتحات في اﻷقبية التي لم يكمل إنشائها ، ﻷول مرة يرى سماء غير سقف اﻷقبية ، رغم ذلك الجدران تحيط به تسد اﻷفق ليس ثمة بوابة إلى الخارج.
يقطع انبهار ﻻمي بالمشهد الجديد شعور غريب جديد ، إذ تتعثر قدمه بأرض صلبه غير ممهدة ،أرض ﻻ عهد لسكان اﻷقبية بها ،إنه يشعر بألم يعقبه شعور بلذة ـ ﻻ ليس (لامي) مازوخيا إنه الدوبامين الذي ﻻ يطلق كثيرا في اﻷقبية ـ اﻷرض متكسرة لو عرف ﻻمي اﻷسفلت لبدا المشهد أمامه كأسفلت محطم يؤدي لنفق صغير يشبه الجحر غير انه يسع فرد كبير من سكان اﻷقبية من اﻷفراد اﻷكبر حجما، يزحف (ﻻمي) داخل النفق حيث الظلام يلتهم الضوء و يلتهم معه الجرأة الطارئة التي أصابت (ﻻمي) لكنه يبتلع خوفه مع بعض تراب النفق ويكمل الزحف نحو النسيم ها هو الضوء يتسلل إلى النفق لقد عرج ﻻمي إلى المشهد الذي تطلع إليه دون أن يراه، لقد اقتنص ما ظنه محاﻻ ،المشهد مشهد بلدة مهجورة يعاد تعميرها ولكن لا أثر لآليات التعمير، أراض ممسوحة و أخرى محفورة بلا أثر ﻷي حركة سوى حركة الهواء،على الرغم من ذلك كان المشهد خلابا إلى ان أحس (ﻻمي) بألم في صدره:ﻻبد أنه الهواء ،يجب أن أعود بسرعة .قالها (لامي) الصغير محدثا نفسه.
**********
***********
*كنان اسم يعنى الحافظ اﻷمين.
*للآشعة الكونية مخاطر يقينا منها الغلاف الجوي للأرض و المجال الكهرومغناطيسي لها .
* بيتا وألفا جسيمات مادية وليست آشعة وقد يتعرض الجسم لخطر إن تعرض لها.
*أبيقورية : مذهب يعني باللذة سمي بذلك نسبة إلى أبيقور الفيلسوف الذي رأى أن الهدف اﻷخلاقي اﻷسمى للإنسان هو اللذة ، واللذة عنده تتمثل فى اﻻستقرار التام والراحة الكاملة دون توتر فتعتمد اللذة على نبذ الرغبة واﻻستغناء عنها ، سيتضح في الحلقات التالية أن اللذة اﻷبيقورية هي المفهوم اﻷساسي في اﻷقبية .
*الدعاية مقتبسة من فكرتين:1-متلازمة القرد اللامنتهية :تعبير عن فكرة تدحض العلة الغائية أي وجود قصد لخلق العالم و قد أشار إليها التطوريين مثل هكسلي و ريتشارد دوكينز و الفكرة تقول إنه لو ظل قرد يطبع لوقت لامتناهي لابد أن يصل لنتاج رائع بالصدفة ككتابات "شيكسبير" ، في اشارة إلى تعقيد الكون و يرد عليهم بأن الكون له بداية وليس منذ اﻷزل.
2-بحث المائة قرد و هو بحث في علم نفس الحيوان نال شهرة كبيرة عن انتقال بعض العادات وراثة و قد شكك الكثير من العلماء في حجيته.
و كلا الفكرتين متعلقتين بفكرة التحكم فحرص البعض على إضعاف إيمان اﻵخرين لبث اليأس في نفوسهم و من ثم التحكم بهم ، كما يتحكم بالمائة قرد عن طريق توريث العادات في أجيالهم .